تصاعدت ظاهرة تواجد جنود أو عناصر مسلحة من دول أجنبية داخل مواقع معينة في جبهات القتال وبؤر الاحتجاجات في المنطقة العربية، وبصفة خاصة في ساحة الصراع الليبي، فيما يعرف بـ"المرتزقة الأجانب" أو "المقاتلين المرتزقة"، الذين يجري تجنيدهم واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم، لأسباب عديدة منها إخماد الاحتجاجات، ودعم الميلشيات الموازية في مواجهة الجيوش النظامية، والاستحواذ على الموارد الاقتصادية خلال الصراعات المسلحة، وممارسة الضغوط على الحكومات الداعمة للجيوش الوطنية.
وتشير الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم (تضمنت 21 مادة) في المادة الأولى منها إلى أن المرتزق هو "أى شخص يجند خصيصًا، محليًا أو في الخارج، للقتال في نزاع مسلح، ويكون دافعه الأساسي للاشتراك في الأعمال العدائية هو الرغبة في تحقيق مغنم شخصي، ويبذل له فعلاً من قبل طرف في النزاع أو باسم هذا الطرف وعد بمكافأة مالية تزيد كثيرًا على ما يوعد به المقاتلون ذوو الرتب والوظائف المماثلة في القوات المسلحة لذلك الطرف أو ما يدفع لهم"، وأضافت: "لا يكون من رعايا طرف في النزاع ولا من المقيمين في إقليم خاضع لسيطرة طرف في النزاع. وليس من أفراد القوات المسلحة لطرف في النزاع. ولم توفده دولة ليست طرفًا في النزاع في مهمة رسمية بصفته من أفراد قواتها المسلحة".
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الاستعانة بقوات مرتزقة أجانب لم تكن ظاهرة جديدة في المنطقة العربية، حيث تم في فترات سابقة تنظيمهم في شركات عابرة للحدود مثل شركة "بلاك ووتر" التي برز دورها في حربى أفغانستان والعراق وغيرت اسمها إلى "إكس آى للخدمات الأمنية" في عام 2009. وقد تزايد دور المرتزقة خلال السنوات الثماني الماضية في ليبيا والسودان وسوريا والعراق، في ظل تصدع نمط الدولة المركزية، مع الأخذ في الاعتبار أن أصول (جنسيات) المرتزقة وعددهم الدقيق تبقى أمورًا غير واضحة. ووفقًا لبعض الكتابات، يتم اللجوء من جانب أطراف الصراعات المحتلفة للمرتزقة الأجانب في الساحة الليبية، استنادًا لعدد من العوامل التالية:
إطفاء نقاط الاشتعال:
1- مواجهة الاحتجاجات الشعبية: تشير عدة تقارير إعلامية إلى أن نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي استعان بمجموعات من المرتزقة من دول عدة مثل تشاد والنيجر والكونغو الديمقراطية ومالي والسودان، فضلاً عن بعض دول آسيا وشرق أوروبا. لذا، شهدت ليبيا، خلال مرحلة ما بعد 17 فبراير 2011، انتشار ظاهرة المرتزقة الأجانب بهدف تمكين النظام من البقاء في السلطة، في حين استغلت مجموعات مرتزقة أخرى حالة الفراغ الأمني لتحقيق أهداف خاصة بها.
وفي مرحلة لاحقة على سقوط نظام القذافي، مكنت المرتزقة الأطراف الليبية المختلفة من خوض المعارك وقتال الخصوم. وقد أكد على ذلك أحمد عبدالحكيم رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا في تصريحه لصحيفة "الشرق الأوسط"، في 9 مايو الماضي، بقوله أن "جميع الأطراف، ومنذ أن جاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى البلاد قبل ثمانية أعوام، متورطة في الاستعانة بأطراف ممولة".
ميلشيات قطاع خاص:
2- دعم الميلشيات الموازية في مواجهة الجيوش النظامية: استفادت قوات المرتزقة من أتون الصراعات الداخلية والحروب المحلية التي استمرت على مدى ثماني سنوات، بل تتمدد في بعض الأقاليم الجغرافية داخل تلك البؤر مثل الجنوب الليبي، حيث اعتبرتهم صحيفة "لوموند" الفرنسية، في 4 نوفمبر 2018، بمثابة "قنبلة إقليمية موقوتة".
وقد حذر مدير جهاز الأمن التشادي أحمد كوقري من خطورة وجود جماعات سودانية وتشادية متمردة مرتزقة تتركز في الجنوب الليبي وتقاتل إلى جانب أطراف ليبية، حسب الطلب، على نحو دعا قائد قوات الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، في 8 مارس 2018، إلى مطالبة كافة الوافدين الأفارقة المتورطين في أعمال عنف مع الميلشيات الإجرامية بمغادرة جنوب البلاد، حيث يكتسب الجنوب الليبي أهميته الاستراتيجية لكونه يقع على الحدود مع النيجر وتشاد والسودان.
وكان أبرز الأسباب التي دعت إلى تسريع عملية تحرير طرابلس من جانب قوات الجيش الوطني الليبي إخلاء العاصمة من قوات المرتزقة، إذ أعلنت قوات الجيش الوطني، في 8 مايو الماضي، إسقاط مقاتلة حربية تابعة لقوات حكومة الوفاق في محور الهيرة، كان يستقلها طيار برتغالي الجنسية، في الوقت الذي نفى العقيد طيار محمد قنونو المتحدث باسم قوات حكومة الوفاق سقوط أى طائرة عسكرية تابعة لها، ووصفت لجنة الدفاع والأمن القومي في مجلس النواب الليبي الاستعانة بطيارين أجانب بأنها "جريمة حرب".
كما أعلنت الكتيبة "140 مشاة" التابعة للقيادة العامة للجيش الوطني الليبي، في بيان مصور على صفحتها الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، في 18 يونيو الجاري، عن نجاحها في القبض على عدد من المرتزقة الأجانب من جنسيات إفريقية أثناء قتالهم ضمن قوات حكومة الوفاق، وذلك في عملية تحرير العاصمة طرابلس من الجماعات الإرهابية والميلشيات المسلحة. وأضافت الكتبية في بيانها: "إن هؤلاء المرتزقة تم جلبهم بالقوة للقتال إلى جانب قوات أسامة جويلي آمر المنطقة العسكرية الغربية لمحاربة قوات الجيش الليبي ووقف تقدمه نحو وسط طرابلس وخاصة محاور طريق المطار والرملة والطويشة".
وقد تزايد هؤلاء المرتزقة بعد رفض العناصر الليبية المؤهلة الانخراط في أنشطة الميلشيات غير النظامية، وهو ما أوضحه عضو مكتب المدعي العام العسكري في الجيش الليبي عادل الحضيري، في تصريح لوكالة "نوفا" الإيطالية في 26 إبريل الماضي، بقوله أن "الطيار المرتزق البرتغالي جيمي ريس كشف أن تجنيده في قاعدة الطلية الجوية في مصراتة لم يكن فرديًا، بل كان ضمن عملية منظمة بدأت منذ أكثر من 4 سنوات، بهدف بناء قوة جوية بالمدينة بعد أن رفض الطيارون الليبيون القتال مع الميلشيات التي تسيطر على المدينة حيث يوجد طيارون وفنيون مرتزقة من الإكوادور والبرتغال وأوكرانيا".
اقتصاد شبكات الظل:
3- الاستحواذ على الموارد الاقتصادية خلال الصراعات المسلحة: وذلك بعد تدهور الأوضاع الأمنية وترسخ مكانة العصابات الإجرامية، إذ سبق أن حذر مبعوث الأمم المتحدة للأزمة الليبية الدكتور غسان سلامة من المرتزقة الأجانب الذين يحاولون السيطرة على الموانئ النفطية (قاموا باجتياح منطقة الهلال النفطي في مارس 2017). وفي السياق ذاته، وُجهت اتهامات عديدة للصديق الكبير رئيس المصرف المركزي الليبي، الذي تمت إقالته من جانب مجلس النواب باعتباره أحد الأسماء الكبيرة المتداولة بإغداق الأموال على التنظيمات المتطرفة والكتائب المسلحة والمرتزقة، حسب تصريحات فتحي المجبري نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي في حوار مع صحيفة "الأهرام" في 19 مايو 2019.
وأضاف المجبري: "يجري استخدام الأموال الليبية في جلب مرتزقة أجانب يقومون بقصف المدنيين في طرابلس، وتمويل تنظيمات إرهابية، مثل القاعدة وداعش وأنصار الشريعة وكل التيارات السياسية التي تدور في فلكهم، وهى تصرفات غريبة على ليبيا، فنحن لا نتحدث عن فساد عالي أو سوء استخدام للموارد، بل عن توظيف خطير للمال العام لدعم عصابات مسلحة وإرهابيين ومرتزقة". فقد ساعد على تمدد المرتزقة اتساع نشاط الاقتصاد غير المشروع الناتج عن تهريب المخدرات والأسلحة والوقود والأفراد عبر ممرات تسيطر عليها مجموعات مختلفة.
تغيير مواقف الجوار:
4- ممارسة الضغوط على الحكومات الداعمة للجيوش الوطنية: كشفت بعض الأدبيات أن أحد أسباب استعانة ميلشيات مصراتة وطرابلس بمجموعات مسلحة من شمال تشاد يكمن في استخدام هذه العناصر للضغط على الرئيس التشادي إدريس ديبي ومنعه من التقارب مع المشير خليفة حفتر بما يؤدي إلى إحداث تدهور في العلاقات الليبية- التشادية. وهنا تجدر الإشارة إلى اللقاء الذي جمع بين حفتر وديبي، في 16 أكتوبر 2018، وأكدا فيه على أهمية التعاون في مجال تبادل المعلومات لتطهير منطقة الساحل والصحراء من المرتزقة المسلحة التي تهدد الأمن الإقليمي.
كما أن قطر وتركيا تقدم جميع أنواع الدعم للميلشيات الإرهابية في طرابلس، على غرار تزويدها بالمرتزقة، لتغيير مسار المعارك وإطالة أمدها وعرقلة تقدم الجيش الوطني، وهو ما سبق أن أشار إليه أحمد المسماري الناطق الرسمي باسم القيادة العامة للجيش الليبي في تصريحات في 24 إبريل الماضي، حيث قال: "إن عناصر أجنبية تقاتل إلى جانب الوفاق وإرهابيين تم نقلهم من مدينتى زوارة ومصراتة إلى طرابلس"، وأضاف: "إن تلك العناصر جاءت عن طريق تركيا كما أن هناك طائرات تقوم بالتصوير وتقديم معلومات عن الجيش لقوات الوفاق".
سياقات مُحفِّزة للبقاء:
خلاصة القول، إن الاستعانة بالأفراد أو المرتزقة ستظل آلية قائمة في الصراع الليبي، خاصة مع استمرار الدعم القادم من أطراف إقليمية لحكومة الوفاق، وغياب القوة الرادعة من جانب القوى الدولية الكبرى، فضلاً عن المُحفِّزات المالية لتلك العناصر التي تحكمها ولاءات متغيرة ومجزأة، وتحالفها مع العصابات الإجرامية، بخلاف محاولات التشكيلات الخاصة الروسية التي قاتلت في سوريا، المعروفة باسم "جيش فاغنر"، التمدد في دول مثل ليبيا، وهو ما يعكس نتاج الصراعات الجارية في المنطقة العربية.